31/7/2001
خالد شومان... الفارس الذي غاب
د. عبد الله المالكي
مجلة الاقتصاد المعاصر

إني حزين على رحيل خالد شومان، وحزني من ذلك النوع الصافي الحاد الذي يجرح الروح والجسد.

حزين، وخائف أيضاَ، لأنني أريد أن أكتب ما يليق به، وأخاف أن يقصر القلم والحرف فلا أوفيه حقه. وخالد ليس قريبي في الدم، وليس زميلي في العمل، ولا تتقاطع عنده مصالحي، ومع ذلك أحس بأنه قريبي وأنه من عشيرتي وأنه من طينتي. وعندما كانت صور وحروف وصفحات نعيه تملأ الصحف، كنت اصطف تلقائيا في آخر الطابور أتلقى به العزاء، وأحتسب الله. كان وجهه الصبوح وابتسامته الوادعة، والواثقة، تقتحم الخاطر والنواظر، فتترقرق دمعة في أعماق العين وتهمي في القلب. و أنا أعرف أنني واحد من آلاف مؤلفة من الناس الذين عرفوه، وأحبوه، وأحس كل منهم أنه قريبه وأحد أفراد أسرته، أو أن خالد هو أحد أفراد أسرتهم.

كان الفقيد يملك قدرة خاصة وفريدة على الاقتراب من زائره أو رفيقه أو جليسه أو محدثه، يعبر إليه بأصالته الحدود ويزيل بتواضعه الحواجز بينه وبينه، ويشاطره إنشغالاته، وهمومه أيضاَ، فيحس الآخر بأنه يعرفه من زمان بعيد وأنه صديق وأيما صديق.

والكثيرون الذين عرفوه، في مشارق الأرض ومغاربها، عرفوه في مناسبات كثيرة، وظروف متباينة، وأزمنة متفاوتة، وكان هو ذاته في كلها، لا يتغير ولا يتلون، بل يفيض بالنقاء والمودة، والدماثة والأدب، والتواضع والبساطة، والنخوة والشهامة، يعطيها للجميع ولا يخص بها أحداَ، ولا يتخلى عن أي منها مهما كان الحادث والواقع، لأن كل تلك الشمائل كانت مجبولة في طبعه وطبيعته.

كان يلتقى زائره هاشاَ، باشاَ، وأغلب الأحيان معانقا، ثم يتدفق بالحديث من تلقاء نفسه، في شفافية مذهلة وصراحة تشعر زائره بالراحة، وتغريه على المكاشفة وبثه همومه، وكان هو يستمع بأناة، ويتكلم ويتصرف بعفوية، فيسعد زائره ويسعد معه، وكان يشعر بالحرج إن عجز عن تلبية مطلب أو قضاء حاجة له. وكنت استغرب عندما ألتقيه فأجده يتحدث عن كل قضية أثيرها ويملك عنها معلومات كافية. كان مثال المصرفي الذي يعايش قضايا مجتمعه وأمته وبلده وعالمه، ويفرزها فرزاَ إيجابياَ وموضوعياَ. وكان له رأي ناجز في كل قضية.

ومثلما لم تقف بينه وبين الناس حواجز، فإنه لم تفصله عن زملائه ومرؤوسيه أي مناصب. وقد أولع به من عملوا معه. وكان البعد الإنساني عنده يسيطر على كل الاعتبارات والعلاقات. وكانت عطاياه المادية كثيرة. قال لي ذات مرة أنه لا يدخر شيئاَ من دخله بل كان ينفقه كله، عاماَ بعد عام بعد عام.

كان خالد أصيلاَ، ومتواضعاَ إلى حد أخاذ، وعفوياَ إلى حد ساحر، ويملك كل ما تتصف به النفوس الكبيرة. كان كبيراَ في كرمه، وفي نخوته، وفي تفكيره، وفي تصرفه، وفي تعامله، مترفعاَ بإباء عن الصغائر والأشياء الصغيرة. وليست هناك كلمة طيبة من تلك التي تقال في أفضل الرجال وأكرمهم إلا وتنطبق على خالد شومان. وهذه ليست كلمات نقولها في مناسبة نعي، فقد كنا نقولها في حياته وفي كل مناسبة يرد فيها ذكره.

كنت أخاف عليه أثناء مرضه، وكانت تفزعني فكرة أن يأخذه الموت منا، وكنت أقول أنه إذا حصل ذلك، فسيأخذ الموت منا واحداَ من أفضل الفرسان في العالم العربي على إطلاقه، فهو كان فارساَ، عربياَ وعروبياَ، بكل ما تحمله الفروسية من قيم ومثل وشموخ وشهامة وشجاعة.

كان خالد شومان إنساناَ بأجمل ما في هذه الكلمة من معاني، وأعذبها، و أنبلها. وقد أدخل السعادة في قلوب كثيرة، وبيوت كثيرة، وسهر مع أخيه عبد المجيد على توطيد بنيان البنك العربي وتحديثه وإدخاله إلى أعماق المجتمع والعصر. وكان يعشق العمل بعيداَ عن الأضواء والجاه والظهور. وقد فشلت، على مدى عشرين عاما عرفته خلالها، في إقناعه بنشر حديث عنه في هذه المجلة أو غيرها، وكان يرسل إلي الصحف رجاءات بأن لا تنشر عنه أي شئ قد يأتيها مني.

أنا حزين على خالد شومان، مع الكثيرين غيري. وفي غمرة الشجن، يعود وجهه الصبوح بابتسامته الوادعة، فيقتحم الذاكرة. عندما أتذكر شريكة عمره السيد سهى شومان ونجله عمر وكريمته عائشة، وأخاه عبد المجيد وأنجاله، فأطلب لهم من الله الصبر والسلوان. فإذا كان هذا هو شعورنا نحن، فكيف يكون حالهم هم! !

رحمك الله يا أبا عمر، وأنزلك فسيح جنانه، وليعوضنا الله عنك.